غريغوريوس النزينزي  

ضياء الفاهمين

غريغوريوس النزينزي  (329 – 390)

رائد في اللاهوت الأرثوذكسي

هو علم من أعلام الفكر الإنساني، ورائد في اللاهوت الأرثوذكسي القويم، وهلّليني جمع في صدره الحضارتين الإغريقية والمسيحية، وإمام من أئمة الكلمة والتعبير، وخطيب عنيف تتدافع من عقيدته البلاغة الأخّاذة الساحرة، وأديب شاعر في عصره كتب باليونانية شعراً، ً قديس كره المناصب فقيد إليها مكرهاً، وعشق العزلة والانفراد بالله فكانت أسقفيته صليباً صلب عليه العالم في سبيل الله  

ولد غريغوريوس نحو 329/330 في مدينة صغيرة تقع في الجنوب الغربي من كبادوكية وتدعى نزينزة، وقيل بل ولد في أرينزة، وهي ضيعة إلى جانب نزينزة كان لذويه فيها منزل وأملاك. وكانت والدته نونا امرأة فاضلة عرفت بتقواها وتمسكها الشديد بالعقيدة الكاثوليكية القويمة. أما والده المعروف بغريغوريوس القديم فكان رجل الصراحة الصارمة، والكلمة الحكيمة الحازمة. انتحل مذهب الهبسترية ردحاً من الزمن ثم اهتدى إلى المسيحية فكان ملء عين المؤمنين الصالحين، وقبيل مولد ابنه انتخب أسقفاً على نزينزة، فكان أباً روحياً للجميع، وأباً بالجسد لثلاثة بنين نشأوا على إيمان عميق، وعلى أخلاق مسيحية عالية.

كان لغريغوريوس الابن طموح في العلم والفضيلة لا حد له، فراح يطلب الفضيلة في ينابيع الحكمة الإلهية، وراح يطلب العلم في كل مكان كان للعلم فيه سلطان: في كبادوكية، وقيصرية فلسطين، والإسكندرية، ولا سيما أثينا منهل العقل والقلب واللسان، حيث لقي باسيليوس (329/ 30 – 379) وربطته به صداقة شهيرة. وقد تخرج الشابان الكبادوكيان على أشهر الأساتذة من مثل ليبانيوس، وهيماريوس، وعمقا في نفسيهما حب الله والخير والصلاح.

وما إن قفلا راجعين إلى كبادوكية، باسيليوس أولاً ثم غريغوريوس (358/359)، حتى عملا على تحقيق الحياة “الفلسفية” التي نسجا خيوطها في أثينا. فانطلق باسيليوس يطلب الوحدة والتهجد، على شاطئ نهير أبريس في أناسوبي، ولحق به صديقه غريغوريوس وفي نفسه ما في نفس صديقه، ولكن أباه استدعاه سنة 361، فعاد إلى نزينزة حيث عمل الجميع على إقناعه بقبول سر الكهنوت، وبعد تخوف رسم كاهناً، ومارس الكهنوت برهة من الزمن وفي سره حنين إلى مشاركة باسيليوس في عزلته وتفرغه للصلاة والتبحر في معاني الكتاب المقدس. واشتد به الحنين، فهجر الديار وانضم إلى صديقه، وفي سنة 362 رجع إلى نزينزة ليحتفل بعيد الفصح.

في هذه الأثناء برز انشقاق في كنيسة نزينزة أدى إليه تورط الأسقف غريغوريوس الأب في توقيع بيان ريميني وكان لا يخلو من آراء آريوسية. فسعى الكاهن الشاب لدى أبيه وحمله على إعلان إيمانه الأرثوذكسي وأعاد بذلك السلام إلى تلك الكنيسة.

في سنة 370 انتخب باسيليوس اسقفاً على قيصرية ولم تمض سنتان على ولايته حتى حمل صديقه على تحمل أعباء الأسقفية وقام بتنصيبه على مدينة سازيموس سنة 372 عله يكون سداً منيعاً في وجه التيارات الهدامة. ولكن الأسقف الجديد لم يجد في هذا العمل ما يصبو إليه، فتركه وعاد إلى منسكه وقال: “خير لي أن أختبئ في الجبل وأعيش فيه العيشة التي أحب والتي أجد فيها مسرتي”. ولكن والده، وقد طعن في السن، وثقلت عليه الشيخوخة، دعاه ليشاطره عبء المسؤولية، فلبى الدعوة في غير ابطاء. وعندما توفي الأسقف الشيخ قام مقامه في الخدمة ريثما ينتخب له خلف شرعي، وقد أظهر من الغيرة والحكمة ما لفت إليه الأنظار، فاجتمع عليه آراء الأساقفة، ووقع عليه اختيارهم، فهرب إلى سلوقية ايزوريا يطلب العزلة والتنسك.

وفي سنة 378 توفي الامبراطور فانس نصير الآريوسية وخلفه ثاودوسيوس الذي عرف بميله إلى الأرثوذكسية ومساندته لها فتوجه كاثوليكيّو القسطنطينية إلى غريغوريوس وتوسلوا إليه في امرهم وفي أن يكون لهم راعياً ومشيراً حيث لا راعي ولا مشير، وحيث انقلبت الدنيا إلى صراعات لاهوتية، ومناورات أيديولوجية، وقد توفي باسيليوس سنة 379، فكان وقع النبأ شديداً على نفس صديقه، وبعد تردد مرهق قبل أن ينتقل إلى القسطنطينية، جعل مركزه في كنيسة صغيرة باسم القيامة (أناستاسيا)، وراح من هناك ينثر الحكمة في غيرة رسولية متوقدة. فكان هذا الانتقال فوزاً للأرثوذكسية، وقد ضجت من جرائه المدينة، وقامت قيامة الآريوسية، وتقارعت البدع والمذاهب، وامتد الحِجاج والنقاش من الساحات العامة والمعابد إلى الأسواق والمنازل والخدور. وفي هذا الجو الفلسفي اللاهوتي الغامر ألقى غريغوريوس سلسلة خطبه اللاهوتية التي دافع فيها عن عقيدة الثالوث، والتي اكسبته لقب “اللاهوتي”.

في أيار من سنة 381 دعاه ثاودوسيوس إلى حضور المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية، ولما توفي ملاتيوس أسقف أنطاكية الذي كان يرئسه، كُلف غريغوريوس بإدارة شؤونه، وما أن ختمت أعماله حتى بادر غريغوريوس إلى الاستقالة من أسقفية العاصمة، وانزوى في خلوة حياته الفلسفية مكبّاً على الصلاة، والتأمل، والدرس، ونظم الشعر، والمراسلة، وظل يهتم بكنيسة نزينزة إلى سنة 383، ثم سلم الأمر إلى ابن عمه أفلاليوس الذي خلفه أسقفاً عليها. وانتقل هو إلى أزينزة حيث توفي سنة 390.

Comments are closed.